- "كلا سيدة جنجولي .. لقد فعلت كما طلبتِ مني بالضبط".
- "حسنا فعلتِ" .. قالت السيدة جنجولي بنبرة تنم عن الرضا والارتياح وهي تفسح المجال لضيفتها الأنيقة كي تدخل إلى منزلها في تلك الساعة المبكرة من الصباح، ولم تنس أن تلقي نظرة خاطفة وحذرة على الشارع المقفر ونوافذ الجيران المسدلة قبل أن تغلق الباب دونهما. السيدة جنجولي كانت امرأة في منتصف الأربعينات، ذات ملبس بسيط وقامة قصيرة وجسد ممتلئ بعض الشيء .. ملامحها الدقيقة، ووجناتها النافرة كانت تعطي انطباعا بالطيبة والمرح. أما ضيفتها الأنيقة فكانت تدعى الآنسة فوستينا سيتي، في عقدها السادس، ملابسها توحي بأنها سيدة متعلمة ذات شأن، لكن هذا الإيحاء سرعان ما يتبخر بمجرد النظر إلى وجهها الذي لا ينم سوى عن أمرين .. البلاهة والقبح! .. لا عجب إذن في كونها عانس لم تتزوج بعد، ولا عجب أيضا في أنها تتوق إلى الزواج أكثر من أي شيء آخر.
- "آه كم أنتِ طيبة يا سيدة جنجولي! .. لا أعرف كيف أرد جميلكِ معي" .. قالت فوستينا بتذلل وهي تشبك يدها على صدرها بعد أن أستقر بها المقام فوق أريكة حقيرة في باحة منزل السيدة جنجولي، ثم استطردت بحماس : "كم أنا متشوقة لرؤية العريس المنشود .. هل هو وسيم حقا كما أخبرتني ؟".
- "وسيم وغني يا عزيزتي .. وهو أكثر تشوقا منكِ لرؤيتكِ" .. أجابت السيدة جنجولي وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة عريضة ثم استطردت بنبرة يشوبها شيء من الحرص والقلق : "لكن هل أنت متأكدة بأنكِ لم تخبري أحدا ؟ .. فنحن لا نريد أن يصيبكِ الحساد بسهامهم قبل أن تصلي إلى مرامكِ".
- "كلا يا سيدة جنجولي .. لقد حرصت أشد الحرص على أن لا يعلم أحد .. ولم أحمل معي سوى مدخراتي والقليل من الملابس في تلك الحقيبة" .. ردت فوستينا وهي تومئ إلى حقيبة جلدية صغيرة تركتها عند مدخل الدار ثم أضافت بنبرة متوسلة : "هل أمضي الآن لملاقاته ؟".
- "مهلا يا عزيزتي .. لا تتعجلي! .. أصبري قليلا حتى أنتهي من تحضير الوصفة السحرية الأخيرة، فهي مهمة جدا لضمان تحقيق المراد" .. ردت السيدة جنجولي بلطف ثم قالت وهي تناول ضيفتها كأسا مترعة بالشراب : "أشربي هذا يا عزيزتي ريثما انتهي من تحضير الوصفة بسرعة". وانصرفت عن ضيفتها تقلب صفحات مخطوطة قديمة وتحسب مقادير بعض المواد والسوائل الغريبة وتسكب كل ذلك في قدر كبير يغلي على النار. أما فوستينا فقد احتست شرابها بسرعة ثم طفقت تضرب الأرض براحة قدمها تعبيرا عن استعجالها وتحرقها للمغادرة، ومن حين لآخر كانت تلتفت للسيدة جنجولي لتسألها بنفاذ صبر : "هل انتهيتِ ؟".
ومرت نصف ساعة ثقيلة قبل أن تعلن السيدة جنجولي انتهاءها، لكن فوستينا لم تقابل هذا الإعلان بالحماسة المتوقعة، ثمة أمر مريب طرأ عليها بعد احتساءها الشراب، لقد خف رأسها وثقلت جفونها، وردت بعد حين بتلعثم وهي تضع يدها على جبهتها : "ماذا ؟! .. ما الذي انتهى؟ .. ماذا يحدث لي؟! .. لماذا كل شيء يدور من حولي ؟".
صورة حقيقية لموقد السيدة جنجولي ووعاء الصابون ..
فابتسمت السيدة جنجولي ابتسامة خبيثة وقالت : "لا بأس عليكِ يا عزيزتي .. لا تهتمي .. سأقوم أنا بكل شيء عنكِ .. تعالي معي". وأخذت عيناها تبرقان كعيني وحش كاسر يتأهب للانقضاض على فريسته، تلاشت ملامحها الطيبة، كأنها كانت تضع قناعا نزعته عنها لتبدي وجها كالحا يفيض شرا وقسوة. ثم تقدمت نحو فوستينا الدائخة والعاجزة تماما، أمسكت بياقة ثوبها ثم جرتها وراءها غير آبهة بترنحها وسقوطها أرضا .. سحلتها سحلا نحو ممر مظلم يقود إلى حمام صغير حيث نزعت عنها ملابسها وسلبتها المال الذي كانت قد خبأته بعناية بين طيات الثياب، ثم أجلستها وسط طست نحاسي كبير. كل ذلك والآنسة فوستينا غير مدركة لما يجري حولها ولا واعية لما يدبر لها، استكانت في جلستها فيما وقفت السيدة جنجولي فوق رأسها تتمتم بكلمات غير مفهومة وترسم رموزا غريبة على الجدار قبل أن تمتد يدها لتستل فأسا ماضية كانت قد خبأتها وراء باب الحمام. وفي الحال، ومن دون أي تردد أو انتظار، رفعت فأسها عاليا ثم هوت بنصله الحاد على رأس الآنسة فوستينا، فانتفضت المسكينة من حر الضربة وراحت تتقلب في الطست كالطير المذبوح والدم يتدفق من رأسها كالرشاش .. أستمر ذلك للحظات قبل أن يخبو جسدها ويتوقف تماما عن الحركة والارتعاش. بيد أن السيدة جنجولي لم تتوقف، إذ مضت تضرب ضحيتها بالفأس بلا هوادة، فصلت الرأس عن الجسد ووضعته عند الباب، ثم انتزعت اليدين والرجلين ونحتهما جانبا، ثم فتحت البطن بواسطة سكين كبيرة وأفرغت الأحشاء، وأخيرا قامت بتقطيع البدن إلى أربعة أقسام، فعلت كل ذلك بحرفية الجزار الخبير، ثم لملمت كل تلك الأشلاء والأوصال ورمتها معا في قدر كبيرة تغلي على النار، وسكبت فوقها سبعة كيلوغرامات من الصودا. أما الدم المتجمع في قعر الطست فقد تركته ليجف أسفل الفرن ثم مزجته لاحقا بمسحوق الشكولاته وأضافت إليه الدقيق والسمن والسكر لتصنع منه كعكة لذيذة استمتعت بالتهامها برفقة أبنائها وضيوفها!.
وكان ذلك آخر عهد سكان بلدة كوريجيو الايطالية بالآنسة فوستينا، لم يرها أحد بعد ذلك ولا علموا شيئا عن مصيرها. لكن بعد مضي عدة أيام على اختفائها ظهرت السيدة جنجولي تسعى في الزقاق المحاذي لمنزلها وهي تحمل كيسا كبيرا مليئا بصابون ذو رائحة كريهة ولون داكن غريب .. وزعته بسخاء على جيرانها الذين تلقفوه منها بامتنان كبير ولسان حالهم يقول : "آووه .. ما أطيب السيدة جنجولي وما أشد كرمها!!".
صانعة الصابون .. من تكون ؟
ليوناردا جنجولي في شبابها ..
لا يعرف الكثير عن طفولة السيدة جنجولي، فأغلب المعلومات المتوافرة عنها مستقاة من كتاب مذكرات منسوب أليها يقال بأنها كتبته في السجن، لكن هناك شكوك حقيقية تحوم حول ذلك، فالسيدة جنجولي كانت ذات تعليم بسيط لا يتجاوز المرحلة الابتدائية، وعليه فأن تأليفها لكتاب من عدة مئات من الصفحات يبدو أمرا مستبعدا، وقد يكون محاميها هو الذي ألف الكتاب ونشره بغرض التربح من شهرة موكلته. وبغض النظر عن هوية المؤلف، فأن الكتاب يشير إلى أن ليوناردا جنجولي (Leonarda Cianciulli ) أبصرت النور عام 1894 في بلدة صغيرة تدعى مونتيلا بالقرب من مدينة نابولي الايطالية. كانت ولادتها ثمرة تعرض أمها للاغتصاب على يد أحد رعاة الماشية إثناء عودتها للمنزل من دير قريب، وكان عمرها آنذاك أربعة عشر ربيعا، وقد اجبرها أهلها على الزواج من مغتصبها، أي والد السيدة جنجولي، بعد ظهور بوادر الحمل عليها درءا للفضيحة. ولهذا فأن مشاعر الأم تجاه أبنتها كان يشوبها الكثير من الفتور والنفور، فأبنتها لم تكن تعني لها سوى ذكرى بغيضة وأليمة سلبتها براءتها وشبابها. وتأزمت العلاقة أكثر بين الأم وأبنتها بعد موت والد السيدة جنجولي وزواج الأم برجل آخر، فأصبحت ليوناردا وحيدة منبوذة حتى من قبل أشقائها وشقيقاتها، وانعكس ذلك كله على صحتها ونفسيتها فكانت ضعيفة البنية تداهمها نوبات صرع من حين لآخر. وقد زعمت السيدة جنجولي في المذكرات بأنها حاولت الانتحار شنقا مرتين خلال تلك الفترة البائسة من حياتها، في المرة الأولى استطاعوا إنقاذها في اللحظة الأخيرة، وفي المرة الثانية أنقطع الحبل، وفي كلا المرتين نظرت أمها إليها باحتقار وقالت لها : "أنا آسفة حقا لأنكِ ما زلتِ على قيد الحياة".
في فترة المراهقة ذاع صيت ليوناردا بسبب جرأتها وسوء سمعتها، يقال بأنها عاشرت العديد من شباب بلدتها، ربما لتعطشها للحب المفقود في علاقتها مع أمها وعائلتها. وفي عام 1917 تزوجت من موظف حكومي يدعى رافائيل بانزاردي، تزوجته بالرغم من معارضة أهلها الذين كانوا يخططون لتزويجها من أحد أقاربهم الموسرين، لكنها أصرت على مخالفة رغبتهم، وخلال زفافها اقتحمت أمها الغاضبة الحفل وألقت عليها لعنة أمام جميع المدعوين حيث صرخت بها قائلة : "أرجوا أن يموت جميع أطفالك". وقد تركت تلك اللعنة أثرا بليغا في نفس السيدة جنجولي، وكانت دافعا رئيسيا لما ارتكبته من جرائم لاحقا.
الزواج لم يحسن من سلوك ليوناردا كثيرا، بل ربما زادها شراسة ومشاكسة، فسجنت مرتين، الأولى عام 1918 بتهمة الاحتيال، والثانية عام 1919 لتهديدها أحد الأشخاص بالسكين. وفي عام 1921 انتقلت إلى بلدة زوجها، وهي بلدة صغيرة تدعى لوريا، لكن سمعتها السيئة سرعان ما لحقت بها إلى هناك، فاشتهرت بين السكان بأنها امرأة سهلة المنال .. مشاكسة .. عدوانية .. محتالة .. لا تتورع عن القيام بأي شيء من أجل المال. وفي عام 1927 سجنت لمدة عشرة أشهر بتهمة النصب والاحتيال. وبعد خروجها من السجن انتقلت لتعيش في منزل صغير عند أطراف بلدة لاتدونيا، لكن ذلك المنزل تهدم على أثر زلزال مدمر عام 1930. وبواسطة مال التعويضات الذي حصلت عليه من الحكومة الايطالية أشترت منزلا جديدا في بلدة كوريجيو بشمال ايطاليا. وهناك تبدلت أحوالها كثيرا، افتتحت دكانا صغيرا لبيع الملابس والخردوات، واكتسبت شعبية كبيرة لدى السكان الذين لم يكونوا يعلمون شيئا عن ماضيها، كل ما عرفوه عنها هو أنها سيدة طيبة ومثابرة، وزوجة وأم محترمة، وربة بيت مدبرة تصنع الصابون في المنزل، وتعد كعكا لذيذا، ولها دراية بقراءة الكف والطالع والوصفات السحرية .. لا عجب بعد ذلك أن يصبح منزلها موئلا للعديد من الضيوف، خصوصا السيدات والعوانس الباحثات عن الثرثرة والقيل والقال.
لكل شيء ثمن
لسنوات طويلة كان هناك هاجس مخيف يطارد السيدة جنجولي ويعكر صفو حياتها. كانت أمها قد أنزلت عليها لعنة غاضبة في ليلة زفافها كما قدمنا أنفا، وقبل ذلك بأعوام قليلة نظرت إحدى الغجريات إلى يدها برعب وأخبرتها بأنها ستنجب العديد من الأطفال لكنهم سيموتون واحدا بعد الآخر، ليس هذا فحسب، فتلك الغجرية حدقت إلى كف ليوناردا برعب وقالت لها بالحرف الواحد : "في يدكِ اليمنى أرى سجن، وفي يدكِ اليسرى أرى مصحة عقلية".
طبعا ما كانت السيدة جنجولي لتعير لعنة أمها ونبوءة الغجرية أي اهتمام لولا أنها بدأت تتحقق على أرض الواقع، فخلال سنوات زواجها حملت السيدة جنجولي سبعة عشر مرة، انتهت ثلاث منها إلى الإجهاض فيما مات عشرة من أطفالها في سن مبكرة. ومع كل حمل .. ومع كل طفل تفقده .. كانت السيدة جنجولي تصبح أكثر يقينا وإيمانا بأنها ملعونة فعلا، وتصبح أكثر توقا للتخلص من تلك اللعنة بأي ثمن. وفي نهاية المطاف، بعد أن يئست تماما من مساعدة الطب والأطباء، لجئت إلى السحر والسحرة، علها تجد عندهم ما عجز الطب عن علاجه، ويقال بأن إحدى الساحرات أخبرتها بأن الطريقة الوحيدة لرفع اللعنة عنها تتطلب تقديم أضحية بشرية .. لابد من إراقة دم بشري لفك النحس .. فلكل شيء ثمن.
لا يعلم أحد كيف نفذت السيدة جنجولي وصية الساحرة ؟ .. لكن المؤكد هو أن أربعة من أطفالها، ثلاثة أولاد وبنت، نجوا من الموت وعاشوا طويلا. ليس هذا فحسب، فمن كثرة ترددها على السحرة أصبحت هي نفسها ساحرة محترفة، وعن ذلك كتبت في مذكراتها تقول : "لم أستطع تحمل خسارة طفل آخر. في كل ليلة تقريبا كنت أحلم بتابوت صغير أبيض ينزل إلى الأرض آخذا معه طفلا آخر من أطفالي .. أرعبني ذلك وأقض مضجعي .. فقررت تعلم السحر وقراءة الكف وعلم التنجيم واللعنات والطلاسم والعلوم الروحية .. أردت تعلم كل شيء عن تلك الأمور لكي أستطيع مواجهتها والتخلص منها".
صانعة الصابون
من المعروف بأن الأم التي تفقد طفلا من أطفالها تصبح حريصة جدا على الباقين، ولهذا السبب بالذات عرف عن السيدة جنجولي شدة حبها لأبنائها وحرصها الكبير عليهم، لم يكن أي شخص في البلدة، من الكبار والصغار، يجرؤ على المساس بأي منهم، لأن أمهم كانت ستفقد رشدها تماما إذا ما تعرض أي منهم للأذى، كانت مستعدة للمضي إلى أبعد الحدود من أجل الدفاع عنهم وحمايتهم. ولهذا فأن دخول ايطاليا للحرب العالمية الثانية صار بمثابة الكابوس بالنسبة لها، أصبحت مرعوبة من أن يتم استدعاء ابنها الأكبر جوزيف للخدمة في الجيش، وكان جوزيف الأحب إلى قلبها من بين أبناءها، وكان يروم إكمال دراسته في جامعة ميلان، لكن إشاعات انتشرت في طول البلاد وعرضها عن نية موسوليني استدعاء جميع الشباب للخدمة العسكرية الإجبارية، وكان ذلك بمثابة ناقوس الخطر للسيدة جنجولي التي قررت بأن الوقت قد حان لتقديم أضحية بشرية جديدة من أجل إنقاذ ولدها المحبوب. وقد حرصت على اختيار ضحاياها بعناية كبيرة من بين النسوة المترددات عليها، اختارت من تصح عليهم مقولة "إذا حضر لا يعد وإن غاب لا يفتقد" .. نسوة وحيدات .. يائسات .. لن يسأل عنهن أحد في حال اختفائهن. وكانت الآنسة فوستينا سيتي هي خيارها الأول، وقد قرأنا أنفا كيف قامت بقتلها وتقطيعها أربا. أما ضحيتها الثانية فكانت أرملة تدعى فرانشيسكا سوافي أغرتها السيدة جنجولي بتدبير وظيفة لها كمعلمة في مدرسة للبنات في بياتشنزا بشمال ايطاليا، أخبرتها كذبا بأنها تعرف الكثير من المسئولين النافذين، وبأنها تستطيع توظيفها بإيماءة صغيرة من إصبعها. أقنعتها بأن لا تخبر أحدا عن الوظيفة الجديدة ولا عن نيتها الرحيل عن البلدة، وذلك دفعا للحسد والعين الشريرة، وطلبت منها أن تأتي إلى منزلها فجر اليوم الذي ستغادر فيه البلدة لكي تستلم أمر التعيين، وأن لا تحمل معها سوى القليل من الملابس وأن تأتي بجميع مدخراتها المالية، وطبعا كان ذلك آخر مشوار في حياة السيدة سوافي، إذ لم يرها أحد بعد ذلك .. انتهى بها المطاف إلى قدر الصابون.
صور ضحايا السيدة جنجولي ..
الضحية الثالثة كانت تدعى فيرجينيا كاجوبو، وعلى العكس من الضحيتين السابقتين فأن الآنسة كاجوبو كانت تتمتع بقدر من الشهرة والجمال، إذ عملت لفترة من حياتها كمغنية سوبرانو وغنت في بعض المسارح الايطالية المرموقة، لكن جمالها وشهرتها كانا في طور الذبول والنسيان بحكم تقدمها في السن، ولهذا لجأت إلى السيدة جنجولي لتساعدها في العودة إلى أيام مجدها. ولم تبخل عليها السيدة جنجولي بالمساعدة! .. فزعمت بأنها عثرت لها على وظيفة مناسبة كسكرتيرة لرجل نبيل من كبار مدراء المسارح ودور الأوبرا في مدينة البندقية، وأقنعتها بأن عملها مع هذا الرجل سيتيح لها فرصة العودة إلى دائرة الضوء من جديد. وكالعادة حثتها على أن لا تخبر أحدا عن الوظيفة الجديدة ونية السفر، ثم طلبت منها أن تزورها فجر يوم الرحيل لكي تعطيها عنوان الرجل النبيل المزعوم مع رسالة توصية. وهكذا تحدد المصير المشئوم للآنسة فريجينيا كاجوبو، فانتهى بها المطاف إلى قدر الصابون بعد أن سلبتها السيدة جنجولي جميع مدخراتها. وعن ذلك كتبت السيدة جنجولي في مذكراتها تقول : "لقد انتهى بها المطاف إلى القدر كما هو الحال مع الاثنتين السابقتين .. لحمها كان ابيض وطري ودسم، لهذا أضفت له قارورة كاملة من العطر بعد ذوبانه، وأبقيته على النار مدة طويلة، فحصلت منه على أجود صابون صنعته حتى الآن .. قمت بإهداء عدة قوالب منه إلى الجيران والمعارف؛ أما الكعك الذي صنعته من دمها فكان ألذ كعك تذوقته حتى الآن .. تلك المرأة كانت حلوة حقا!".
في قبضة العدالة
خلال محاكمتها ..
بعد عدة أسابيع على مقتل الآنسة كوجوبو توجهت زوجة شقيقها إلى الشرطة للإبلاغ عن اختفاءها المفاجئ، أخبرتهم بأنها رحلت في ساعة مبكرة من الصباح من دون أن تتفوه بكلمة واحدة عن وجهتها، وبأنها أخذت معها حقيبة ملابس صغيرة وجميع مدخراتها، وبأنها شوهدت آخر مرة وهي تدخل منزل السيدة جنجولي التي كانت تكثر من زيارتها في الأيام التي سبقت اختفاءها، وكان ذلك آخر العهد بها .. إذ لم يرها أحد بعد ذلك.
الشرطة ذهبت إلى منزل السيدة جنجولي من اجل الاستفسار عن مصير الآنسة كاجوبو، فأخبرتهم عن قصة الوظيفة الجديدة وعن رحيل الآنسة كاجوبو إلى البندقية. لكن تحقيقات الشرطة كشفت كذب السيدة جنجولي، فالرجل النبيل الذي زعمت بأن الآنسة كاجوبو ذهبت للعمل لديه لم يكن له وجود، وهكذا بدأت الشرطة ترتاب في السيدة جنجولي، وبمواجهتها بكذبها، وبتهديدها بتوجيه تهمة الاختطاف إلى ابنها جوزيف، انهارت السيدة جنجولي سريعا واعترفت بكل شيء، فهي كما ذكرنا أنفا، كانت مستعدة لفعل أي شيء من اجل حماية أبناءها، وقد أستغل المحققون ذلك أفضل استغلال، فطفقت تحدثهم عن جرائمها بالتفصيل، وعن ما فعلته بجثث الضحايا .. كيف أذابتها في الماء المغلي .. وكيف صنعت منها الصابون بعد إضافة الصودا .. وكيف ألقت ما تبقى من العظام والشعر في البالوعة .. وكيف استعملت الدم في صنع الكعك ... وهو حديث وجد محققو الشرطة صعوبة بالغة في تصديقه، فكيف لامرأة بهذا العمر والحجم أن تقطع جثة بشرية بسرعة كبيرة إلى درجة أن أبناءها الساكنين معها في ذات المنزل لا يشعرون بذلك. السيدة جنجولي أخبرتهم بأن العملية كلها، أي القتل والتقطيع وتنظيف الدم ورمي العظام .. لا تأخذ منها سوى 12 دقيقة!! .. وللتأكد من ذلك يقال بأن المحققين أخذوها إلى مشرحة المدينة وأعطوها فأسا وسكينا ثم طلبوا منها أن تقطع إحدى الجثث خلال 12 دقيقة فقط!.
ادوات القتل التي استعملتها السيدة جنجولي مع صورتها وصور ضحاياها ..
محاكمة السيدة جنجولي شغلت الرأي العام الإيطالي بأسره، وطغت أخبارها لفترة على أخبار المعارك المحتدمة في جبهات القتال. السيدة جنجولي دافعت عن نفسها أمام المحكمة بأنها فعلت ما فعلت فداء لأطفالها من الموت، وأسهبت في الحديث عن شبح أمها التي كانت تظهر دوما في كوابيسها وتهددها بأخذ المزيد من أطفالها ما لم تحصل على دماء جديدة. لكن المحكمة لم تقتنع بهذه الحجج. ورأى المدعي العام بأن الدافع الحقيقي للجرائم هو سلب مدخرات الضحايا. وشكك في أن تكون السيدة جنجولي قد ارتكبت جرائمها لوحدها، متهما أبنها الأكبر بمساعدتها. لكن المحكمة لم تجد أي دليل يدينه فبرأت ساحته وأطلقت سراحه، أما السيدة جنجولي فقد نالت حكما بالسجن لمدة 33 عام .. ثلاث أعوام منها تقضيها في مصحة للأمراض العقلية وثلاثين عاما أخرى في السجن .. أي تماما كما أخبرتها الغجرية قبل سنوات طويلة.
السيدة جنجولي ماتت وحيدة في المصحة العقلية عام 1970 ودفنت في مقبرة الفقراء والمشردين في بوزولي، لا احد طالب بجثتها، ولم يحضر دفنها أحد. إحدى الراهبات تتذكر السيدة جنجولي قائلة : "بالرغم من تشوقنا لتناول الحلويات لأننا لا نحصل عليها كثيرا، وبالرغم من مهارة السيدة جنجولي في صناعة الكعك، إلا أن أحدا لم يجرؤ على تناول ولو قطعة صغيرة من الكعك الذي كانت تعده في المصحة طيلة 24 عاما، كان العاملون والمرضى والسجناء يرتعبون من رؤيته، بعضهم زعموا بأنه يحتوي على وصفات سحرية شريرة فيما آمن آخرون بأنه مصنوع من الدم .. لذلك لم يأكله احد سوى السيدة جنجولي نفسها".
اليوم ما زالت السيدة جنجولي تتمتع ببعض الشهرة في ايطاليا حيث تشتهر بأسم صانعة الصابون من كيريجيو (la saponificatrice di Correggio )، وما زالت أدوات القتل التي استعملتها في القتل والتقطيع، إلى جانب صورتها وصور ضحاياها، معروضة في متحف علم الجريمة في روما (Museo di Roma criminological ).
الشحوم البشرية .. تجارة رائجة!
تجارة الزيت البشري في البيرو ..
يا ترى هل كانت السيدة جنجولي نادرة في صنعتها ؟ .. كلا .. فصناعة الصابون وبعض مستحضرات التجميل من أجساد البشر ليست بالشيء الجديد .. وهناك شائعات عن وجود نسبة من الشحوم والدهون البشرية في بعض مستحضرات التجميل الموجودة في الأسواق اليوم. في عام 2009 ألقت الشرطة في البيرو القبض على رجلين وهما يحملان عبوة من الزيت اعترفا بأنهما مستخلصة من أجساد البشر، قالا بأن شركات مستحضرات التجميل الأوربية تشتري منهما هذا الزيت البشري سرا بمبلغ 4500 يورو للعبوة. ولاحقا ألقت الشرطة القبض على ثلاثة رجال آخرين على صلة بالقضية، اتضح بأن المتهمين هم عصابة يقومون بخطف الناس في الغابات النائية ليقتلونهم ويستخلصون الزيت من أجسادهم. رئيس العصابة قال بأنهم يقتلون الضحية أولا ثم يقطعون رأسه وأطرافه ويعلقون الباقي من بدنه على خشبة ثم يشوونه على نار هادئة ويجمعون الزيت المتسرب من لحمه في إناء معدني يضعونه أسفل الخشبة. وبحسب الشرطة البيروية فأن أفراد العصابة قاموا بقتل عشرات الأشخاص بهذه الطريقة. ويعتقد بأن هناك عصابات أخرى تعمل في نفس المجال، فالزيت البشري له سوق رائجة على ما يبدو، وهناك أساطير قديمة تتحدث عن خواص خارقة للزيت البشري في استعادة الشباب وإعادة النظارة إلى البشرة. وللشحم البشري اليوم استخدامات طبية متعددة، خصوصا في مجال التجميل ومعالجة تجعد البشرة، لكن الأطباء لا يقتلون الناس طبعا للحصول على الشحم، وإنما يشترونه من مراكز العلاج الخاصة بشفط الشحوم.
تاريخيا .. هناك ساحرة أسبانية تفوقت على السيدة جنجولي في القسوة والإجرام، اسمها انركيتا مارتي ريبولس، وتعرف بأسم مصاصة دماء برشلونة (la vampira de Barcelona ). هذه الشيطانة كانت متخصصة في خطف الأطفال من الشارع .. الأطفال الفقراء والمشردين .. تحضرهم إلى شققها المبثوثة في أرجاء المدينة لتذبحهم وتضع أشلائهم في قدر كبير يغلي على النار، تماما كما في مشاهد الساحرات الشريرات اللائي يظهرن في أفلام الرسوم المتحركة، كانت تصنع من شحومهم مستحضرات تجميل باهظة الثمن تبيعها لجميلات برشلونة وسيدات المجتمع الراقي.
سفاحة برشلونة قتلت الكثير من الأطفال، ذبحتهم بدم بارد يحسدها عليه أقسى المجرمين والجلادين. وقد تحدثت طفلة صغيرة أنقذتها الشرطة من براثن السفاحة في اللحظة الأخيرة عن طفل صغير كان يلعب معها في الشقة التي حبسوا فيها، قالت بأن انركيتا أخذته إلى المطبخ في أحد الأيام ومددته على الطاولة ثم ذبحته بالسكين كما تذبح الدجاجة .. ملئت عدة قناني من دمه .. ثم قامت بتقطيع جسده إلى أشلاء ألقتها في قدر كبير يغلي لاستخلاص الشحم الذي تستعمله في تحضير مستحضراتها التجميلية.
نهاية انركيتا كانت سريعة، وجدوها مشنوقة في زنزانتها عام 1912، قالوا بأنها انتحرت، لكن المرجح أن موتها كان مدبرا .. قتلها أولئك السياسيون والأثرياء الفاسدون الذين كانوا يشترون مستحضراتها الشريرة .. أرادوا إسكاتها وإقفال فمها إلى الأبد .. كي تبقى أسمائهم بيضاء ناصعة.
الصابون النازي
هل استخدم النازيون جثث سجناءهم لصناعة الصابون ؟
قصص صناعة الصابون من جثث البشر في معسكرات الأسر النازية هي الأشهر تاريخيا، لكنها لا تخلو من مبالغة وتهويل. فالكثير من المؤرخين المعاصرين يعتبرونها مجرد دعاية أطلقتها مخابرات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية من اجل تشويه صورة النازيين. وحتى لو كان الأمر حقيقيا، فمن المستبعد جدا قيام الألمان بإنتاج هذا الصابون البشري على نطاق واسع، والأقرب إلى التصديق هو أن بعض الباحثين الألمان أجروا تجارب على نطاق ضيق في المختبرات من اجل صناعة صابون بشري يستخدم في تنظيف وتعقيم مختبراتهم بسبب شحة وصعوبة وصول منتجات التنظيف في زمن الحرب، فالصابون الذي كان يوزع على الألمان وفق نظام الحصص كان ذو نوعية رديئة جدا.
والظاهر أن تجارب صناعة الصابون تلك أوقفت على الفور ما أن وصلت أخبارها إلى أسماع هاينريش هيلمر قائد قوات الوقاية الألمانية (SS ) الذي كان مسئولا عن إدارة السجون والمعتقلات النازية أبان الحرب، فبعض المصادر التاريخية تؤكد أن هيلمر طالب بتحقيق فوري في تلك المزاعم وأمر بدفن وإحراق جثث الموتى في المعسكرات فورا منعا لسوء استخدامها.
غالبية قصص صنع الصابون البشري من قبل النازيين استندت إلى مزاعم وادعاءات لا يمكن التثبت من صحتها. الشهادة الموثقة الوحيدة وردت خلال محاكمات نورمبيرغ الشهيرة على لسان مساعد مختبر يدعى سيجموند مازر كان يعمل في دائرة البحوث الملحقة بمعتقل دانزج النازي في بولندا، وبحسب هذه الشهادة زعم مازر بأنهم جمعوا ما يقارب الثمانين كيلوغرام من الشحوم من أربعين جثة بشرية واستخدموا هذه الكمية في إنتاج 25 كلغم من الصابون الذي أستعمله البروفيسور رودولف سبانر لتعقيم وتنظيف مختبرات مركز البحوث. وقدمت عينة من ذلك الصابون خلال المحاكمات كدليل إدانة ضد قادة ألمانيا النازية. وطبعا لم يكن التأكد من حقيقة كون ذلك الصابون مصنوع من الشحم البشري متاحا في ذلك الزمان، لكن العالم البولندي اندريه ستوليخفو أثبت عام 2006 عن طريق عينة صغيرة كانت محفوظة في أرشيف محكمة العدل الدولية في لاهاي .. أثبت بأن ذلك الصابون كان يحتوي فعلا على أنسجة بشرية.
وفي كتابه (روسيا خلال الحرب 1941 – 1945) ذكر الكاتب البريطاني الكسندر فيرث بأنه زار دانزج بعد فترة قصيرة من سقوطها بيد القوات الروسية، وبأنه شاهد مصنع تجارب صغير خارج المدينة كان يستعمل لصنع الصابون من الجثث البشرية، وبحسب فيرث فأن ذلك المصنع كان يدار من قبل البروفسور رودولف سبانر، وكان الدخول إليه أشبه بالكابوس، فأوعية التقطير فيه كانت مليئة بالرؤوس والجذوع البشرية المنقوعة في محلول ما، ودلاءه كانت مملوءة بمادة هلامية متخثرة.
موتى يتحولون إلى صابون!
السيدة الصابونية معروضة في المتحف ..
ليس المجرمون وحدهم هم الذين يحولون الأجساد البشرية إلى صابون، فالطبيعة تقوم بذلك أيضا في بعض الأحيان، وهي عملية طبيعية تعرف بأسم التصبن (Saponification ) تحدث للأجساد البشرية التي تدفن في أماكن غنية بالمواد القلوية أو في بيئة لا تساعد على التحلل ولا يصلها الأوكسجين، فالشحوم الموجودة في الأنسجة إضافة إلى السوائل المترشحة عن الجسد تتحول بالتدريج وببطء إلى ما يعرف بأسم "شمع القبر"، هذه الحالة نادرة لكنها معروفة، وهي تحدث على وجه الخصوص في البلدان الرطبة. وتعتبر السيدة الصابونية (The Soap Lady ) الجثة المتصبنة الأكثر شهرة، وهي معروضة اليوم في متحف موتر في فيلادلفيا، وتعود هذه الجثة لسيدة في الثلاثينات من عمرها ماتت في أواخر القرن الثامن عشر بمرض الحمى الصفراء. وجرى العثور على الجثة عن طريق الصدفة في أواخر القرن التاسع عشر أثناء العمل على مد خط سكة حديد .. الجثة عجيبة حقا .. تحولت إلى قالب صابون كبير!.
ختاما ..
جميعنا أعتدنا على غسل أيدينا بالصابون عدة مرات في اليوم، والكثير من النساء درجن على استخدام مستحضرات التجميل من حين لآخر .. فهل خطر على بالنا يوما ماهية المواد المستعملة في صنع تلك الأشياء التي درجنا على استعمالها .. هل فكرتم يوما بصابون مصنوع من شحوم الموتى وكريم تجميل تضعونه على وجوهكم مستخلص من أجساد الأطفال الأبرياء! .. أليس من الغباء أن يقتل الإنسان أخاه الإنسان من أجل قالب صابون ؟! ..
ربما لا! ..
فأن تقتل إنسانا من اجل قالب صابون يبدو أكثر ذكاءا .. نوعا ما .. من أن تقتله للاشيء .. كما يحدث يوميا بالجملة في بعض بقاع الأرض التعيسة .. وأن يتحول الإنسان إلى قطعة صابون يبدو أكثر فائدة من أن يمضي حياته بلا هدف .. بلا عقل .. بلا منطق.